
هناء فتحى
الفخرانى.. سارق الروح
أن تقع فى غواية يحيى الفخرانى - وهو الفنان المفتون بالروح - فذلك يعنى أنك قد أدركت مراتبك ووضعته علىٰ سلم «المتصوفة».. وصرت تعرف جيداً أنه لا يرتدى زيًا لشخوصه إنصياعًا لأوامر الدور ولا يركب ملامحًا فوق ملامحه ولا يستبدل صوته وضحكته فـ«سليم البدرى» هو توءم «رحيم عمران».. وكلاهما توءمان فى العنقود المتشابك لـ«ونوس».. إنه ذلك الفنان المربك.. الذى لم يؤد دورا يشبه دور.. ولم تختلط عليه الشخصيات.. ولم يقلد نفسه.. ولم يقلد أحدًا.. ولم توقعه واحدة من شخصياته فى غوايتها وغرامها وأفخاخها.. يخرج من ملامحه بنفس ملامحه.. يهرب بجلده إلى أغوار نفسه فيمنحنا هذا الأداء البهى وهو «غاسل» وجهه بالماء والضوء.. بلا رتوش.
حتى فى تألقه ووهجه داخل الأعمال الثلاثة للكاتب الكبير عبدالرحيم كمال بدايةً من شيخ العرب همام مروراً بالخواجة عبدالقادر انتهاء بونوس.. لم يخرج الفخرانى من ملامح وجهه.. لا هو قد وضع سوادا فوق حواجبه ولا باروكة علىٰ رأسه.. ربما ارتدى بورنيطة أو جلبابا أو بدلة -حسب المستوى الاجتماعى للدور- وهو أيضاً ظل بثقل جسده ولم يبدل وزنه .. إذن أين السر ؟؟ السر: هو الكنز المدسوس فى عينيه.. نظراته المخاتلة.. الجفون التى تضيق وتتسع بعباراتها.. وبصمتها.. بدمعها وبقسوتها.. الفخرانى هو المجسد الفعلى والحقيقى لنظرية التمثيل بالعين.
لذا لم يكن فى وقوعه واستسلامه لغواية «ونوس» - تحديدا - أية صعوبة .. ونوس: الشيخ والزنديق.. البركة والمدنس.. الشيطان الرجيم والملاك معا فالفخرانى الواعى المثقف ابن المسرح قد حفظ واستوعب وهضم عن ظهر قلب دراما راسبوتين.. لا أعلم إن كان قد لعب الدور من قبل فى مسرحياته.. لكنه منذ اللحظة التى دخل فيها علىٰ عائلة هالة صدقى فى المسلسل واتجه إلى ابن حنان مطاوع.. الطفل المعاق بالشلل ليشفيه قد تماهى مع مشهد الراهب الزنديق الروسى الأشهر «راسبوتين» وهو يدخل قصر القيصر نيقولا الثانى ويتجه إلى الطفل المريض بطفح الدم ليشفيه.. راسبوتين الذى قلب تاريخ روسيا والعالم رأسًا علىٰ عقب.
ثمة تماس واضح فى الشخصيتين: ونوس وراسبوتين - لا تقليد ولا تمصير ولا ترجمة- لكنه تماس فى غواية الروح بالشخصيتين.. الروح المنبلجة من الجنة والنار معا.. الروح الساحرة والمسحورة ثمة شخوص فى الحياة مستلبة ومستلبة - فاعل ومفعول به-.. كانت فى التاريخ مشعة براقة ساحرة آخاذة فاتنة.. ليس بالضرورة شخصيات صالحة.. هى جميلة حتى ولو كانت من نسل إبليس.. حتى ولو كانت «ونوس» ابن اللذين ذات نفسه.
اللافت أن مخرج العمل هو شادى الفخرانى قد سيطر سيطرة كاملة على جميع الممثلين.. فلعبوا كلهم مباراة العمر، هالة صدقى المذهلة بانفعالاتها.. بصراخها وصمتها..مشاهدها الأروع تلك التى أدتها بلا كلمات فقط بابتسامة من طرف الفم ونظرة العين الفاحصة، حنان مطاوع الرائعة بتمكنها المدهش.. لا اهتزاز ولا خوف ولا رهبة من الدور ولا من أدوار الآخرين.. فنانة تمتلك أدواتها بثقة.. لديها فى المسلسل حتى الآن مشهدان -إعجاز - أحدهما أمام هالة صدقى وهما تتناحران حول مصير الابن وقسوة الأم، والآخر حوارها مع ابنها فى الكازينو.. الولد الصغير الذى أدى دور ابن حنان مطاوع.. مش ممكن .. حرامى كاميرا.